سورة النساء - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


هذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: {لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} [النساء: 7] الآية، وقد استدل بذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذه الآية ركن من أركان الدين، وعمدة من عمد الأحكام، وأم من أمهات الآيات لاشتمالها على ما يهم من علم الفرائض، وقد كان هذا العلم من أجلّ علوم الصحابة، وأكثر مناظراتهم فيه، وسيأتي بعد كمال تفسير ما اشتمل عليه كلام الله من الفرائض ذكر بعض فضائل هذا العلم إن شاء الله.
قوله: {يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم} أي: في بيان ميراثهم.
وقد اختلفوا هل يدخل أولاد الأولاد أم لا؟ فقالت الشافعية: إنهم يدخلون مجازاً لا حقيقة، وقالت الحنفية: إنه يتناولهم لفظ الأولاد حقيقة إذا لم يوجد أولاد الصلب، ولا خلاف أن بني البنين كالبنين في الميراث مع عدمهم، وإنما هذا الخلاف في دلالة لفظ الأولاد على أولادهم مع عدمهم، ويدخل في لفظ الأولاد من كان منهم كافراً، ويخرج بالسنة، وكذلك يدخل القاتل عمداً، ويخرج أيضاً بالسنة والإجماع، ويدخل فيه الخنثى. قال القرطبي: وأجمع العلماء أنه يورث من حيث يبول، فإن بال منهما، فمن حيث سبق، فإن خرج البول منهما من غير سبق أحدهما، فله نصف نصيب الذكر، ونصف نصيب الأنثى. وقيل: يعطى أقلّ النصيبين، وهو نصيب الأنثى، قاله يحيى بن آدم، وهو قول الشافعي. وهذه الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من الموارثة بالحلف، والهجرة، والمعاقدة.
وقد أجمع العلماء على أنه إذا كان مع الأولاد من له فرض مسمى أعطيه، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين، للحديث الثابت في الصحيحين، وغيرهما بلفظ: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض، فلأولى رجل ذكر» إلا إذا كان ساقطاً معهم، كالأخوة لأم.
وقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} جملة مستأنفة لبيان الوصية في الأولاد، فلا بد من تقدير ضمير يرجع إليهم: ويوصيكم الله في أولادكم للذكر منهم مثل حظ الأنثيين. والمراد: حال اجتماع الذكور والإناث، وأما حال الانفراد، فللذكر جميع الميراث، وللأنثى النصف، وللاثنتين فصاعداً الثلثان. قوله: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أي: فإن كنّ الأولاد، والتأنيث باعتبار الخبر، أو البنات، أو المولودات نساء ليس معهن ذكر فوق اثنتين، أي: زائدات على اثنتين على أن فوق صفة لنساء، أو يكون خبراً ثانياً لكان: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} الميت المدلول عليه بقرينة المقام.
وظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعداً، ولم يسم للاثنتين فريضة، ولهذا اختلف أهل العلم في فريضتهما، فذهب الجمهور إلى أن لهما إذا انفردتا عن البنين الثلثين.
وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف، احتج الجمهور بالقياس على الأختين، فإن الله سبحانه قال في شأنهما: {فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان} [النساء: 176] فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين، كما ألحقوا الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين، وقيل: في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث كان للإبنتين إذا انفردتا الثلثان، هكذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش، والمبرد. قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط؛ لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين، وأيضاً للمخالف أن يقول إذا ترك بنتين، وابناً فللبنتين النصف، فهذا دليل على أن هذا فرضهما، ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة إذا انفردت النصف بقوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف} كان فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة، وأوجب القياس على الأختين الاقتصار للبنتين على الثلثين.
وقيل: إن {فوق} زائدة، والمعنى: وإن كنّ نساء اثنتين، كقوله تعالى: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} [الأنفال: 12] أي: الأعناق، ورد هذا النحاس، وابن عطية، فقالا: هو خطأ؛ لأن الظروف وجميع الأسماء لا تجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى. قال ابن عطية: ولأن قوله: {فَوْقَ الأعناق} هو الفصيح، وليست {فوق} زائدة، بل هي محكمة المعنى؛ لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ، كما قال دريد بن الصمة: اخفض عن الدماغ، وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال. انتهى. وأيضاً لو كان لفظ {فوق} زائداً، كما قالوا لقال، فلهما ثلثا ما ترك. ولم يقل، فلهن ثلثا ما ترك، وأوضح ما يحتج به الجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي في سننه، عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال: «يقضي الله في ذلك»، فنزلت آية الميراث: {يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم} الآية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال: «أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي، فهو لك» أخرجوه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر. قال الترمذي: ولا يعرف إلا من حديثه.
قوله: {وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف} قرأ نافع، وأهل المدينة: {واحدةٌ} بالرفع على أن كان تامة بمعنى: فإن وجدت واحدة، أو حدثت واحدة. وقرأ الباقون بالنصب، قال النحاس: وهذه قراءة حسنة، أي: وإن كانت المتروكة، أو المولودة واحدة.
قوله: {وَلأِبَوَيْهِ لِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس} أي: لأبوي الميت، وهو: كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه و{لِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس} بدل من قوله: {وَلاِبَوَيْهِ} بتكرير العامل للتأكيد، والتفصيل. وقرأ الحسن، ونعيم بن ميسرة: {السدس} بسكون الدال، وكذلك قرأ: {الثلث} والربع إلى العشر بالسكون، وهي لغة بني تميم، وربيعة، وقرأ الجمهور بالتحريك ضماً، وهي لغة أهل الحجاز، وبني أسد في جميعها. والمراد بالأبوين: الأب والأم، والتثنية على لفظ الأب للتغليب.
وقد اختلف العلماء في الجد، هل هو بمنزلة الأب، فتسقط به الأخوة أم لا؟ فذهب أبو بكر الصديق إلى أنه بمنزلة الأب، ولم يخالفه أحد من الصحابة أيام خلافته، واختلفوا في ذلك بعد وفاته، فقال بقول أبي بكر ابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعائشة، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وعطاء، وطاوس، والحسن، وقتادة، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وإسحاق، واحتجوا بمثل قوله تعالى: {مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} [الحج: 78] وقوله: {يا بني آدم} [الأعراف؛ 26، 27، 31، 35]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ارموا يا بني إسماعيل» وذهب علي ابن أبي طالب وزيد بن ثابت، وابن مسعود إلى توريث الجدّ مع الإخوة لأبوين أو لأب، ولا ينقص معهم من الثلث، ولا ينقص مع ذوي الفروض من السدس في قول زيد، ومالك، والأوزاعي، وأبي يوسف، ومحمد، والشافعي. وقيل: يشرك بين الجد، والإخوة إلى السدس، ولا ينقص من السدس شيئاً مع ذوي الفروض وغيرهم، وهو: قول ابن أبي ليلى، وطائفة.
وذهب الجمهور إلى أن الجد يسقط بني الإخوة، وروى الشعبي عن علي أنه أجرى بني الإخوة في المقاسمة مجرى الإخوة. وأجمع العلماء على أن الجد لا يرث مع الأب شيئاً، وأجمع العلماء على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم، وأجمعوا على أنها ساقطة مع وجود الأم، وأجمعوا على أن الأب لا يسقط الجدّة أم الأمّ.
واختلفوا في توريث الجدة، وابنها حيّ، فروي عن زيد بن ثابت، وعثمان، وعلي أنها لا ترث، وابنها حيّ، وبه قال مالك، والثوري، والأوزاعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
وروي عن عمر وابن مسعود، وأبي موسى: أنها ترث معه.
وروي أيضاً، عن عليّ، وعثمان، وبه قال شريح، وجابر بن زيد، وعبيد الله بن الحسن، وشريك، وأحمد، وإسحاق وابن المنذر.
قوله: {إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} الولد يقع على الذكر والأنثى، لكنه إذا كان الموجود الذكر من الأولاد، وحده أو مع الأنثى منهم، فليس للجد إلا السدس، وإن كان الموجود أنثى كان للجد السدس بالفرض، وهو عصبة فيما عدا السدس، وأولاد ابن الميت كأولاد الميت.
قوله: {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ} أي: ولا ولد ابن لما تقدّم من الإجماع {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} منفردين، عن سائر الورثة، كما ذهب إليه الجمهور من أن الأم لا تأخذ ثلث التركة إلا إذا لم يكن للميت وارث غير الأبوين، أما لو كان معهما أحد الزوجين، فليس للأم إلا ثلث الباقي بعد الموجود من الزوجين.
وروي عن ابن عباس أن للأم ثلث الأصل مع أحد الزوجين، وهو يستلزم تفضيل الأمّ على الأب في مسألة زوج وأبوين مع الاتفاق على أن أفضل منها عند انفرادهما عن أحد الزوجين.
قوله: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِهِ السدس} إطلاق الإخوة يدل على أنه لا فرق بين الإخوة لأبوين أو لأحدهما.
وقد أجمع أهل العلم على أن الإثنين من الإخوة يقومون مقام الثلاثة فصاعداً في حجب الأم إلى السدس، إلا ما يروى عن ابن عباس أنه جعل الاثنين كالواحد في عدم الحجب. وأجمعوا أيضاً على أن الأختين فصاعداً، كالأخوين في حجب الأم. قوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} قرأ ابن كثير، وابن عامر، وعاصم: {يوصى} بفتح الصاد. وقرأ الباقون بكسرها، واختار الكسر أبو عبيد، وأبو حاتم؛ لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا. قال الأخفش: وتصديق ذلك قوله: {يُوصِينَ} و{توصون}.
واختلف في وجه تقديم الوصية على الدين مع كونه مقدماً عليها بالإجماع، فقيل: المقصود تقديم الأمرين على الميراث من غير قصد إلى الترتيب بينهما، وقيل: لما كانت الوصية أقل لزوماً من الدين قدّمت اهتماماً بها وقيل: قدّمت لكثرة وقوعها، فصارت كالأمر اللازم لكل ميت وقيل: قدمت لكونها حظ المساكين والفقراء، وأخر الدين لكونه حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان وقيل: لما كانت الوصية ناشئة من جهة الميت قدمت، بخلاف الدين، فإنه ثابت مؤدي ذكر أو لم يذكر وقيل: قدّمت لكونها تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، فربما يشق على الورثة إخراجها، بخلاف الدين، فإن نفوسهم مطمئنة بأدائه، وهذه الوصية مقيدة بقوله تعالى: {غَيْرَ مُضَارّ} كما سيأتي إن شاء الله.
قوله: {آباؤكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} قيل: خبر قوله: {أيهم} مقدر أي: هم المقسوم عليهم، وقيل: إن الخبر قوله: {لاَ تَدْرُونَ} وما بعده {وَأَقْرَبَ} خبر قوله: {أَيُّهُم} و{نَفْعاً} تمييز، أي: لا تدرون أيهم قريب لكم نفعه في الدعاء لكم، والصدقة عنكم، كما في الحديث الصحيح: «أو ولد صالح يدعو له» وقال ابن عباس، والحسن: قد يكون الابن أفضل، فيشفع في أبيه.
وقال بعض المفسرين: إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله أن يرفع إليه أباه، وإذا كان الأب أرفع درجة من ابنه سأل الله أن يرفع ابنه إليه.
وقيل المراد: النفع في الدنيا، والآخرة، قاله ابن زيد، وقيل: المعنى: إنكم لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم، أمن أوصى منهم فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته، فهو أقرب لكم نفعاً، أو من ترك الوصية، ووفر عليكم عرض الدنيا؟ وقوى هذا صاحب الكشاف، قال: لأن الجملة اعتراضية، ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه، ويناسبه قوله: {فَرِيضَةً مّنَ الله} نصب على المصدر المؤكد، إذ معنى: {يُوصِيكُمُ} يفرض عليكم.
وقال مكي، وغيره: هي حال مؤكدة، والعامل يوصيكم. والأوّل أولى {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بقسمة المواريث {حَكِيماً} حكم بقسمتها، وبينها لأهلها.
وقال الزجاج: {عَلِيماً} بالأشياء قبل خلقها {حَكِيماً} فيما يقدّره ويمضيه منها.
قوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ} الخطاب هنا للرجال. والمراد بالولد ولد الصلب، أو ولد الولد لما قدمنا من الإجماع {فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ} وهذا مجمع عليه لم يختلف أهل العلم في أن للزوج مع عدم الولد النصف، ومع وجوده، وإن سفل الربع. وقوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} الخ الكلام فيه، كما تقدم. قوله: {وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم} هذا النصيب مع الولد، والنصيب مع عدمه تنفرد به الواحدة من الزوجات، ويشترك فيه الأكثر من واحدة لا خلاف في ذلك، والكلام في الوصية، والدين، كما تقدّم. قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كلالة} المراد بالرجل الميت، و{يُورَثُ} على البناء للمفعول من ورث لا من أورث، وهو خبر كان و{كلالة} حال من ضمير {يُورَثُ} أي: يورث حال كونه ذا كلالة، أو على أن الخبر كلالة، ويورث صفة لرجل، أي: إن كان رجل يورث ذا كلالة ليس له ولد، ولا والد، وقريء {يُورَثُ} مخففاً، ومشدداً، فيكون كلالة مفعولاً، أو حالاً، والمفعول محذوف، أي: يورث، وأريد حال كونه ذا كلالة، أو يكون مفعولاً له، أي: لأجل الكلالة. والكلالة مصدر من تكلله النسب، أي: أحاط به، وبه سمي الإكليل لإحاطته بالرأس. وهو الميت الذي لا ولد له، ولا والد، هذا قول أبي بكر الصديق، وعمر، وعليّ، وجمهور أهل العلم، وبه قال صاحب كتاب العين وأبي منصور اللغوي، وابن عرفة، والقتيبي، وأبو عبيد، وابن الأنباري.
وقد قيل: إنه إجماع. قال ابن كثير: وبه يقول أهل المدينة، والكوفة، والبصرة، وهو قول الفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة، وجمهور الخلف، والسلف بل جميعهم.
وقد حكى الإجماع غير واحد، وورد فيه حديث مرفوع. انتهى.
وروى أبو حاتم، والأثرم، عن أبي عبيدة أنه قال: الكلالة كل من لم يرثه أب، أو ابن، أو أخ، فهو عند العرب كلالة.
قال أبو عمر بن عبد البر: ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب، والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له، ولم يذكره في شرط الكلالة غيره، وما يروى عن أبي بكر، وعمر من أن الكلالة من لا ولد له خاصة، فقد رجعا عنه.
وقال ابن زيد: الكلالة: الحيّ، والميت جميعاً، وإنما سموا القرابة كلالة؛ لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه، وليسوا منه، ولا هو منهم، بخلاف الابن، والأب، فإنهما طرفان له، فإذا ذهبا تكلله النسب. وقيل: إن الكلالة مأخوذة من الكلال، وهو الإعياء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد، وإعياء.
وقال ابن الأعرابي: إن الكلالة بنو العم الأباعد. وبالجملة فمن قرأ: {يُورَثُ كلالة} بكسر الراء مشددة، وهو بعض الكوفيين، أو مخففة، وهو الحسن، وأيوب جعل الكلالة القرابة. ومن قرأ: {يُورَثُ} بفتح الراء، وهم الجمهور احتمل أن يكون الكلالة الميت، واحتمل أن يكون القرابة.
وقد روي عن علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والشعبي أن الكلالة ما كان سوى الولد، والوالد من الورثة. قال الطبري: الصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده، ووالده، لصحة خبر جابر فقلت: «يا رسول الله إنما يرثني كلالة، أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا» انتهى.
وروي عن عطاء أنه قال: الكلالة المال. قال ابن العربي وهذا قول ضعيف لا وجه له.
وقال صاحب الكشاف: إن الكلالة تنطلق على ثلاثة: على من لم يخلف ولداً، ولا والداً، وعلى من ليس بولد، ولا والد من المخلفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد. انتهى.
قوله: {أَو امرأة} معطوف على رجل مقيد بما قيد به، أي: أو امرأة تورث كلالة. قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} قرأ سعد بن أبي وقاص من أمّ. وسيأتي ذكر من أخرج ذلك عنه. قال القرطبي: أجمع العلماء أن الإخوة ها هنا هم الإخوة لأم قال: ولا خلاف بين أهل العلم أن الإخوة للأب، والأم، أو للأب ليس ميراثهم هكذا، فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله تعالى: {وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الأنثيين} [النساء: 176] هم الإخوة لأبوين، أو لأب، وأفرد الضمير في قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} لأن المراد كل واحد منهما، كما جرت بذلك عادة العرب، إذا ذكروا اسمين مستويين في الحكم، فإنهم قد يذكرون الضمير الراجع إليهما مفرداً، كما في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة: 45] وقوله: {يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} [التوبة: 34].
وقد يذكرونه مثنى، كما في قوله: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135].
وقد قدمنا في هذا كلاماً أطول من المذكور هنا.
قوله: {فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثلث} الإشارة بقوله: {من ذلك} إلى قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} أي: أكثر من الأخ المنفرد، أو الأخت المنفردة بواحد، وذلك بأن يكون الموجود اثنين فصاعداً، ذكرين أو أنثيين، أو ذكراً، وأنثى.
وقد استدل بذلك على أن الذكر، كالأنثى من الإخوة لأم؛ لأن الله شرّك بينهم في الثلث، ولم يذكر فضل الذكر على الأنثى، كما ذكره في البنين، والإخوة لأبوين، أو لأب. قال القرطبي: وهذا إجماع. ودلت الآية على أن الإخوة لأم إذا استكملت بهم المسألة كانوا أقدم من الإخوة لأبوين، أو لأب، وذلك في المسألة المسماة بالحمارية، وهي إذا تركت الميتة زوجاً وأماً وأخوين لأمّ، وإخوة لأبوين، فإن للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخوين لأم الثلث، ولا شيء للإخوة لأبوين. ووجه ذلك أنه قد وجد الشرط الذي يرث عنده الإخوة من الأم، وهو كون الميت كلالة، ويؤيد هذا حديث: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي، فلأولي رجل ذكر» وهو في الصحيحين، وغيرهما، وقد قررنا دلالة الآية، والحديث على ذلك في الرسالة التي سميناها: المباحث الدرية في المسألة الحمارية. وفي هذه المسألة خلاف بين الصحابة، فمن بعدهم معروف.
قوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الكلام فيه، كما تقدم. قوله: {غَيْرَ مُضَارّ} أي: يوصي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الضرار، كأن يقرّ بشيء ليس عليه، أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الإضرار بالورثة. أو يوصي لوارث مطلقاً، أو لغيره بزيادة على الثلث، ولم تجزه الورثة، وهذا القيد أعني قوله: {غَيْرَ مُضَارّ} راجع إلى الوصية، والدين المذكورين، فهو قيد لهما، فما صدر من الإقرارات بالديون، أو الوصايا المنهي عنها له، أو التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته، فهو باطل مردود لا ينفذ منه شيء، لا الثلث، ولا دونه. قال القرطبي: وأجمع العلماء على أن الوصية للوارث لا تجوز. انتهى. وهذا القيد أعني عدم الضرار هو قيد لجميع ما تقدّم من الوصية والدين. قال أبو السعود في تفسيره: وتخصيص القيد بهذا المقام لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم.
قوله: {وَصِيَّةً مّنَ الله} نصب على المصدر، أي: يوصيكم بذلك وصية من الله كقوله: {فَرِيضَةً مّنَ الله} قال ابن عطية: يصح أن يعمل فيها مضار. والمعنى: أن يقع الضرر بها، أو بسببها، فأوقع عليها تجوزاً، فتكون {وصية} على هذا مفعولاً بها؛ لأن الاسم الفاعل قد اعتمد على ذي الحال، أو لكونه منفياً معنى، وقرأ الحسن: {وَصِيَّةً مّنَ الله} بالجرّ على إضافة اسم الفاعل إليها، كقوله يا سارق الليلة أهل الدار. وفي كون هذه الوصية من الله سبحانه دليل على أنه قد وصى عباده بهذه التفاصيل المذكورة الفرائض، وأن كل وصية من عباده تخالفها، فهي مسبوقة بوصية الله، وذلك كالوصايا المتضمنة لتفضيل بعض الورثة على بعض، أو المشتملة على الضرار بوجه من الوجوه.
والإشارة بقوله: {تِلْكَ} إلى الأحكام المتقدمة، وسماها حدوداً لكونها لا تجوز مجاوزتها، ولا يحلّ تعديها {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} في قسمة المواريث، وغيرها من الأحكام الشرعية، كما يفيده عموم اللفظ: {فدخله جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وهكذا قوله: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} قرأ نافع، وابن عامر {ندخله} بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية. قوله: {وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي: وله بعد إدخاله النار عذاب لا يعرف كنهه.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن جابر قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت.
وقد قدّمنا أن سبب النزول سؤال امرأة سعد بن الربيع.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري، ولا الضعفاء من الغلمان، لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر، وترك امرأة يقال لها: أم كجة، وترك خمس جوار، فأخذ الورثة ماله، فشكت ذلك أمّ كجَّة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية: {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين} ثم قال في أمّ كجة: {وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ}.
وأخرج سعيد بن منصور، والحاكم، والبيهقي، عن ابن مسعود قال: كان عمر بن الخطاب إذا سلك بنا طريقاً، فاتبعناه، وجدناه سهلاً، وإنه سئل عن امرأة، وأبوين، فقال: للمرأة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب.
وأخرج عبد الرزاق، والبيهقي، عن زيد بن ثابت نحوه.
وأخرج ابن جرير، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس أنه دخل على عثمان، فقال: إن الأخوين لا يردان الأمّ عن الثلث قال الله: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} والأخوان ليس بلسان قومك إخوة، فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي، ومضى في الأمصار، وتوارث به الناس.
وأخرج الحاكم والبيهقي في سننه، عن زيد بن ثابت؛ أنه قال: إن العرب تسمي الأخوين إخوة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن الجارود، والدارقطني، والبيهقي في سننه عن علي قال: إنكم تقرؤون هذه الآية: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وأن أعيان بني الأمّ يتوارثون دون بني العلات.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {آبائكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} يقول: أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة عند الله يوم القيامة؛ لأن الله سبحانه شفع المؤمنين بعضهم في بعض.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} قال: في الدنيا.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والدارمي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يقرأ: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمَّ}.
وأخرج البيهقي، عن الشعبي قال: ما ورث أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الإخوة لأم مع الجدّ شيئاً قط، وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن شهاب قال: قضى عمر أن ميراث الاخوة لأمّ بينهم للذكر مثل الأنثى، قال: ولا أرى عمر قضي بذلك حتى علمه من رسول الله، ولهذه الآية التي قال الله: {فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثلث}.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وعبد ابن حميد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس قال: الإضرار في الوصية من الكبائر، ثم قرأ: {غَيْرَ مُضَارّ}.
وقد رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عنه مرفوعاً. وفي إسناده عمر بن المغيرة أبو حفص المصيصي. قال أبو القاسم بن عساكر: ويعرف بمفتي المساكين، وروى عنه غير واحد من الأئمة، قال فيه أبو حاتم الرازي: هو شيخ. وقال: وعليّ بن المديني: هو مجهول لا أعرفه. قال ابن جرير: والصحيح الموقوف. انتهى. ورجال إسناد هذا الموقوف رجال الصحيح، فإن النسائي رواه في سننه، عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة عنه.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، واللفظ له، والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته، فيختم له بشرّ عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشرّ سبعين سنة، فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله، فيدخل الجنة» ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {تِلْكَ حُدُودُ الله} إلى قوله: {عَذَابٌ مُّهِينٌ}. وفي إسناده شهر بن حوشب، وفيه مقال معروف.
وأخرج ابن ماجه، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قطع ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة» وأخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة مرفوعاً.
وأخرجه ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، عن سليمان بن موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه يعوده في مرضه، فقال: «إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بالثلثين؟ فقال: لا، قال فالشطر؟ قال: لا، قال فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر، ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس».
وأخرج ابن أبي شيبة، عن معاذ بن جبل قال: إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم: يعني: الوصية.
وفي الصحيحين، عن ابن عباس قال: وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث كثير».
وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عمر قال: ذكر عند عمر الثلث في الوصية، فقال: الثلث وسط لا بخس ولا شطط.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن علي قال: لأن أوصي بالخمس أحبّ إليّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحبّ إليّ من أن أوصي بالثلث، ومن أوصى بالثلث لم يترك.
فائدة: ورد في الترغيب في تعلم الفرائض وتعليمها ما أخرجه الحاكم، والبيهقي في سننه، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلموا الفرائض، وعلموه الناس، فإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض، وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها» وأخرجاه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلموا الفرائض، وعلموه، فإنه نصف العلم، وإنه ينسى، وهو أوّل ما ينزع من أمتي» وقد روي عن عمر، وابن مسعود، وأنس آثار في الترغيب في الفرائض، وكذلك روي عن جماعة من التابعين، ومن بعدهم.


لما ذكر سبحانه في هذه السورة الإحسان إلى النساء، وإيصال صدقاتهنّ إليهنّ، وميراثهنّ مع الرجال، ذكر التغليظ عليهنّ فيما يأتين به من الفاحشة لئلا يتوهمن أنه يسوغ لهنّ ترك التعفف {واللاتى} جمع التي بحسب المعنى دون اللفظ، وفيه لغات: اللاتي بإثبات التاء، والياء، واللات بحذف الياء، وإبقاء الكسرة لتدل عليها، واللائي بالهمزة والياء، واللاء بكسر الهمزة، وحذف الياء، ويقال في جمع الجمع اللواتي، واللوائي، واللوات، واللواء. والفاحشة: الفعلة القبيحة، وهي مصدر كالعافية، والعاقبة، وقرأ ابن مسعود: {بالفاحشة}. والمراد بها هنا: الزنا خاصة، وإتيانها فعلها، ومباشرتها. والمراد بقوله: {مّن نِّسَائِكُمُ} المسلمات، وكذا {مّنكُمْ} المراد به المسلمون. قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى البيوت} كان هذا في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله تعالى: {الزانية والزانى فاجلدوا} [النور: 2] وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبس المذكور، وكذلك الأذى باقيان مع الجلد، لأنه لا تعارض بينها بل الجمع ممكن. قوله: {أو يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} هو ما في حديث عبادة الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» الحديث.
قوله: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} اللذان تثنية الذي، وكان القياس أن يقال اللذيان كرحيان. قال سيبويه: حذفت الياء ليفرق بين الأسماء الممكنة، وبين الأسماء المبهمة.
وقال أبو علي: حذفت الياء تخفيفاً. وقرأ ابن كثير: {اللذان} بتشديد النون، وهي لغة قريش، وفيه لغة أخرى، وهي: {اللذا} بحذف النون. وقرأ الباقون بتخفيف النون. قال سيبويه: المعنى، وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها: أي: الفاحشة منكم ودخلت الفاء في الجواب، لأن في الكلام معنى الشرط. والمراد باللذان هنا: الزاني، والزانية تغليباً، وقيل: الآية الأولى في النساء خاصة محصنات وغير محصنات، والثانية في الرجال خاصة، وجاء بلفظ التثنية لبيان صنفي الرجال من أحصن، ومن لم يحصن، فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى، واختار هذا النحاس، ورواه عن ابن عباس، ورواه القرطبي، عن مجاهد، وغيره، واستحسنه.
وقال السدي، وقتادة، وغيرهما الآية الأولى في النساء المحصنات، ويدخل معهنّ الرجال المحصنون، والآية الثانية في الرجل والمرأة البكرين، ورجحه الطبري، وضعفه النحاس وقال: تغليب المؤنث على المذكر بعيد.
وقال ابن عطية: إن معنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يقلق عنه وقيل: كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل، فخصت المرأة بالذكر في الإمساك، ثم جمعاً في الإيذاء، قال قتادة: كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعاً. واختلف المفسرون في تفسير الأذى، فقيل التوبيخ، والتعيير، وقيل: السبّ، والجفاء من دون تعيير، وقيل: النيل باللسان، والضرب بالنعال، وقد ذهب قوم إلى أن الأذى منسوخ كالحبس.
وقيل: ليس بمنسوخ كما تقدّم في الحبس. قوله: {فَإِن تَابَا} أي: من الفاحشة {وَأَصْلَحَا} العمل فيما بعد {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} أي: اتركوهما وكفوا عنهما الأذى وهذا كان قبل نزول الحدود على ما تقدّم من الخلاف.
قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} استئناف لبيان أن التوبة ليست بمقبولة على الاطلاق، كما ينبئ عنه قوله: {تَوَّاباً رَّحِيماً} بل إنما تقبل من البعض دون البعض، كما بينه النظم القرآني ها هنا، فقوله: {إِنَّمَا التوبة} مبتدأ خبره قوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء بجهالة}. وقوله: {عَلَى الله} متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، أو متعلق بمحذوف وقع حالاً عند من يجوز تقديم الحال التي هي ظرف على عاملها المعنوي. وقيل: المعنى: إنما التوبة على فضل الله ورحمته بعباده. وقيل: المعنى: إنما التوبة واجبة على الله، وهذا على مذهب المعتزلة؛ لأنهم يوجبون على الله عز وجل واجبات من جملتها قبول توبة التائبين. وقيل: على هنا بمعنى عند، وقيل: بمعنى من.
وقد اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون} [النور: 31] وذهب الجمهور إلى أنها تصح من ذنب دون ذنب خلافاً للمعتزلة، وقيل: إن قوله: {عَلَى الله} هو الخبر. وقوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ} متعلق بما تعلق به الخبر، أو بمحذوف وقع حالاً. والسوء هنا: العمل السيئ. وقوله: {بِجَهَالَةٍ} متعلق بمحذوف وقع صفة أو حالاً، أي: يعملونها متصفين بالجهالة، أو جاهلين.
وقد حكى القرطبي، عن قتادة أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية، فهي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً.
وحكى عن الضحاك، ومجاهد أن الجهالة هنا: العمد، وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] وقال الزجاج: معناه بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية. وقيل معناه: أنهم لا يعلمون كنه العقوبة، ذكره ابن فورك، وضعفه ابن عطية. قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} معناه قبل أن يحضرهم الموت، كما يدل عليه قوله: {حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت} وبه قال أبو مجلز، والضحاك، وعكرمة، وغيرهم، والمراد قيل: المعاينة للملائكة، وغلبة المرء على نفسه، و{من} في قوله: {مِن قَرِيبٍ} للتبعيض، أي: يتوبون بعض زمان قريب، وهو ما عدا وقت حضور الموت. وقيل معناه: قبل المرض، وهو ضعيف، بل باطل لما قدمنا، ولما أخرجه أحمد، والترمذي، وحسنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» وقيل معناه: يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار.
قوله: {فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} هو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم بعد بيانه أن التوبة لهم مقصورة عليهم.
وقوله: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} تصريح بما فهم من حصر التوبة فيما سبق على من عمل السوء بجهالة، ثم تاب من قريب. قوله: {حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت} {حتى} حرف ابتداء، والجملة المذكورة بعدها غاية لما قبلها، وحضور الموت حضور علاماته، وبلوغ المريض إلى حالة السياق، ومصيره مغلوباً على نفسه مشغولاً بخروجها من بدنه، وهو وقت الغرغرة المذكورة في الحديث السابق، وهي بلوغ روحه حلقومه، قاله الهروي. وقوله: {قَالَ إِنّى تُبْتُ الآن} أي: وقت حضور الموت. قوله: {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} معطوف على الموصول في قوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} أي: ليست التوبة لأولئك، ولا للذين يموتون، وهم كفار مع أنه لا توبة لهم رأساً، وإنما ذكروا مبالغة في بيان عدم قبول توبة من حضرهم الموت، وأن وجودها كعدمها.
وقد أخرج البزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن ابن عباس في قوله: {واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة} قال: كانت المرأة إذا فجرت حبست في البيوت، فإن ماتت ماتت، وإن عاشت عاشت، حتى نزلت الآية في سورة النور: {الزانية والزانى فاجلدوا} [النور: 2] فجعل الله لهنّ سبيلاً. فمن عمل شيئاً جلد وأرسل، وقد روى هذا عنه من وجوه، وأخرج أبو داود في سننه عنه، والبيهقي في قوله: {واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ} إلى قوله: {سَبِيلاً} ثم جمعهما جميعاً، فقال: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا} ثم نسخ ذلك بآية الجلد، وقد قال بالنسخ جماعة من التابعين، أخرجه أبو داود، والبيهقي، عن مجاهد، وأخرجه عبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة.
وأخرجه البيهقي في سننه، عن الحسن.
وأخرجه ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير.
وأخرجه ابن جرير عن السدي.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} قال: كان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير، وضرب بالنعال، فأنزل الله بعد هذه الآية: {الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} قال: الرجلان الفاعلان.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير: {واللذان يأتيانها مِنكُمْ} يعني البكرين.
وأخرج ابن جرير، عن عطاء قال: الرجل، والمرأة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} الآية قال: هذه للمؤمنين وفي قوله: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} قال: هذه لأهل النفاق {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} قال: هذه لأهل الشرك.
وأخرج ابن جرير، عن الربيع مثله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة قال: اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصى به، فهو جهالة عمداً كان أو غيره.
وأخرج عبد ابن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن أبي العالية أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد، فهو جهالة.
وأخرج ابن جرير من طريق الكلبي، عن أبي عن صالح، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} الآية، قال: من عمل السوء، فهو جاهل من جهالته عمل السوء {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} قال: في الحياة، والصحة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه قال: القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي في الشعب، عن الضحاك قال: كل شيء قبل الموت، فهو قريب له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت، فليس له ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن قال: القريب: ما لم يغرغر.
وقد وردت أحاديث كثيرة في قبول توبة العبد ما لم يغرغر، ذكرها ابن كثير في تفسيره، ومنها الحديث الذي قدّمنا ذكره.


هذا متصل بما تقدم من ذكر الزوجات، والمقصود نفي الظلم عنهنّ، والخطاب للأولياء، ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها، وهو ما أخرجه البخاري، وغيره، عن ابن عباس في قوله: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت. وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية: كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته، فيعضلها حتى يموت، أو تردّ إليه صداقها. وفي لفظ لابن جرير، وابن أبي حاتم عنه: فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت، فيرثها.
وقد روي هذا السبب بألفاظ، فمعنى قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} أي: لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث، فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم، وتحبسونهن لأنفسكم {وَلاَ} يحل لكم أن {تَعْضُلُوهُنَّ} عن أن يتزوجن غيركم لتأخذوا ميراثهن إذا متن، أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح. قال الزهري، وأبو مجلز: كان من عاداتهم إذا مات الرجل، وله زوجة ألقى ابنه من غيرها، أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة، فيصير أحق بها من نفسها، ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره، وأخذ صداقها، ولم يعطها شيئاً، وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثت من الميت، أو تموت، فيرثها، فنزلت الآية.
وقيل: الخطاب لأزواج النساء إذا حبسوهنّ مع سوء العشرة طمعاً في إرثهنّ، أو يفتدين ببعض مهورهنّ، واختاره ابن عطية. قال: ودليل ذلك قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} إذا أتت بفاحشة، فليس للوليّ حبسها حتى تذهب بمالها إجماعاً من الأمة، وإنما ذلك للزوج. قال الحسن: إذا زنت البكر، فإنها تجلد مائة وتنفى، وتردّ إلى زوجها ما أخذت منه.
وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل، فلا بأس أن يضارّها، ويشقّ عليها حتى تفتدى منه.
وقال السدي: إذا فعلن ذلك، فخذوا مهورهنّ.
وقال قوم: الفاحشة البذاءة باللسان، وسوء العشرة قولاً وفعلاً.
وقال مالك، وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك.
هذا كله على أن الخطاب في قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} للأزواج، وقد عرفت مما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} لمن خوطب بقوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} فيكون المعنى: ولا يحلّ لكم أن تمنعوهنّ من الزواج: {لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ} أي: ما آتاهنّ من ترثونه: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} جاز لكم حبسهنّ عن الأزواج، ولا يخفى ما في هذا من التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج، وتستعفّ من الزنا، وكما أن جعل قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} خطاباً للأولياء فيه هذا التعسف، كذلك جعل قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} خطاباً للأزواج فيه تعسف ظاهر مع مخالفته لسبب نزول الآية الذي ذكرناه، والأولى أن يقال إن الخطاب في قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ} للمسلمين، أي: لا يحل لكم معاشر المسلمين أن ترثوا النساء كرهاً، كما كانت تفعله الجاهلية، ولا يحلّ لكم معاشر المسلمين أن تعضلوا أزواجكم، أي: تحبسوهن عندكم مع عدم رغوبكم فيهنّ، بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من المهر يفتدين به من الحبس، والبقاء تحتكم، وفي عقدتكم مع كراهتكم لهنّ: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} جاز لكم مخالعتهنّ ببعض ما آتيتموهنّ.
قوله: {مُّبَيّنَةٍ} قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي بكسر الياء. وقرأ الباقون بفتحها. وقرأ ابن عباس: {مُّبِيْنَةٍ} بكسر الباء، وسكون الياء من أبان الشيء، فهو مبين. قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} أي: بما هو معروف في هذه الشريعة، وبين أهلها من حسن المعاشرة، وهو خطاب للأزواج، أو لما هو أعم، وذلك يختلف باختلاف الأزواج في الغنى، والفقر، والرفاعة، والوضاعة: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة، ولا نشوز {فَعَسَى} أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة، وتبدلها بالمحبة، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة، وحصول الأولاد، فيكون الجزاء على هذا محذوفاً مدلولاً عليه بعلته، أي: فإن كرهتموهنّ، فاصبروا: {فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}.
قوله: {وآتيتم إحداهن قنطاراً} قد تقدم بيانه في آل عمران، والمراد به هنا: المال الكثير، فلا تأخذوا منه شيئاً. قيل: هي محكمة، وقيل: هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة: {ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألاَّ يقيما حدود الله} [البقرة: 229] والأولى أن الكل محكم، والمراد هنا: غير المختلعة لا يحل لزوجها أن يأخذ مما آتاها شيئاً. قوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} الاستفهام للإنكار والتقريع. والجملة مقررة للجملة الأولى المشتملة على النهي.
وقوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} إنكار بعد إنكار مشتمل على العلة التي تقتضي منع الأخذ، وهي: الإفضاء. قال الهروي: وهو إذا كانا في لحاف واحد، جامع، أو لم يجامع، وقال الفراء: الإفضاء، أن يخلو الرجل والمرأة، وإن لم يجامعها.
وقال ابن عباس، ومجاهد، والسدي: الإفضاء في هذه الآية: الجماع وأصل الإفضاء في اللغة: المخالطة، يقال للشيء المختلط فضاً، ويقال القوم فوضى وفضاً، أي: مختلطون لا أمير عليهم.
قوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} معطوف على الجملة التي قبله، أي: والحال أن قد أفضى بعضكم إلى بعض، وقد أخذن منكم ميثاقاً غليظاً، وهو عقد النكاح، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» وقيل: هو قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 229] وقيل: هو الأولاد.
قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نكح ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء} نهى عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم. ثم بين سبحانه وجه النهي عنه، فقال: {إِنَّهُ كَانَ فاحشة وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً} هذه الصفات الثلاث تدل على أنه من أشدّ المحرمات وأقبحها، وقد كانت الجاهلية تسميه نكاح المقت. قال ثعلب: سألت ابن الأعرابي، عن نكاح المقت، فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها، أو مات عنها، ويقال لهذا الضيزن، وأصل المقت البغض، من مقته يمقته مقتاً، فهو ممقوت، ومقيت. قوله: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} هو استثناء منقطع أي: لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه، وقيل: إلا بمعنى بعد، أي: بعد ما سلف. وقيل: المعنى: ولا ما سلف، وقيل: هو استثناء متصل من قوله: {مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ} يفيد المبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعلق بالمحال، يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف، فانكحوا، فلا يحلّ لكم غيره. قوله: {وَسَاء سَبِيلاً} هي جارية مجرى بئس في الذم، والعمل، والمخصوص بالذم محذوف، أي: ساء سبيلاً سبيل ذلك النكاح. وقيل: إنها جارية مجرى سائر الأفعال، وفيها ضمير يعود إلى ما قبلها.
وقد أخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وقد كان لهم ذلك في الجاهلية، فأنزل الله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في كبيشة بنت معمر بن معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت، فتوفي عنها، فجنح عليها ابنه، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا أنا ورثت زوجي، ولا أنا تركت، فأنكح، فنزلت هذه الآية.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن عبد الرحمن بن البيلماني في قوله: {لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} قال: نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام. قال ابن المبارك: {أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} في الجاهلية، {ولا تعضلوهنّ} في الإسلام.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي مالك في قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} قال: لا تضر بامرأتك لتفتدي منك.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} يعني: أن ينكحن أزواجهن كالعضل في سورة البقرة.
وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد قال: كان العضل في قريش بمكة: ينكح الرجل المرأة الشريفة، فلعلها لا توافقه، فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود، فيكتب ذلك عليها، ويشهد، فإذا خطبها خاطب، فإن أعطته، وأرضته أذن لها، وإلا عضلها، وقد قدمنا عن ابن عباس في بيان السبب ما عرفت.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} قال: البغض، والنشوز، فإذا فعلت ذلك، فقد حل له منها الفدية.
وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك نحوه أيضاً.
وأخرج ابن جرير، عن الحسن قال الفاحشة هنا: الزنا.
وأخرج ابن جرير، عن أبي قلابة، وابن سيرين نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي، في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} قال: خالطوهنّ. قال ابن جرير: صحفه بعض الرواة، وإنما هو: خالقوهنّ.
وأخرج ابن المنذر، عن عكرمة قال: حقها عليك الصحبة الحسنة، والكسوة، والرزق المعروف.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} يعني: صحبتهن بالمعروف {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} فيطلقها، فتتزوج من بعده رجلاً، فيجعل الله له منها ولداً، ويجعل الله في تزويجها خيراً كثيراً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الخير الكثير أن يعطف عليها، فترزق ولدها، ويجعل الله في ولدها خيراً كثيراً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن نحو ما قال مقاتل.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ} الآية، قال: إن كرهت امرأتك، وأعجبك غيرها، فطلقت هذه، وتزوجت تلك، فأعط هذه مهرها، وإن كان قنطاراً.
وأخرج سعيد بن منصور، وأبو يعلى. قال السيوطي بسند جيد: أن عمر نهى الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فاعترضت له امرأة من قريش فقالت: أما سمعت ما أنزل الله يقول: {وآتيتم إحداهن قنطاراً} فقال: اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر، فركب المنبر، فقال: يا أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحبّ. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه، فليفعل. قال ابن كثير: إسناده جيد قويّ، وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة، هذا أحدها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: الإفضاء هو الجماع، ولكن الله يكني.
وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} قال: الغليظ: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه، وقال: وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح: آلله عليك لتمسكنّ بمعروف، أو لتسرحنّ بإحسان.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن ابن أبي مليكة أن ابن عمر: كان إذا نكح قال: أنكحتك على ما أمر الله به، إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن أنس بن مالك نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن عكرمة، ومجاهد في قوله: {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} قال: أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: هو قول الرجل ملكت.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد قال: كلمة النكاح التي تستحلّ بها فروجهن.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في سننه في قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء} أنها نزلت لما أراد ابن أبي قيس بن الأسلت أن يتزوج امرأة أبيه بعد موته.
وأخرج ابن المنذر، عن الضحاك: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} إلا ما كان في الجاهلية.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن البراء قال: لقيت خالي، ومعه الراية قلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده، فأمرني أن أضرب عنقه، وآخذ ماله.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8